رقابة صحة اختصاص المحكمة الأجنبية عند الأمر بتنفيذ حكمها
رقابة صحة اختصاص المحكمة الأجنبية عند الأمر بتنفيذ حكمها |
عندما يقدم الحكم الأجنبي للقاضي المطلوب منه إصدار الأمر بتنفيذه ، فإنه يبدأ بإجراء رقابة تستهدف التأكد من توافر الشروط الخارجية أو الشكلية لصحة الحكم الأجنبي(1) ، ومنها رقابة صحة اختصاص المحكمة الأجنبية التي أصدرت الحكم المطلوب إليه الأمر بتنفيذه .
ورقابة صحة اختصاص المحكمة الأجنبية تكون على مستويين :
المستوى الأول : رقابة الاختصاص الدولي أي اختصاص محاكم الدولة بالمنازعات ذات العنصر الأجنبي إزاء محاكم الدول الأخرى وهو ما يطلق عليه الاختصاص العام المباشر.
والمستوى الثاني: رقابة الاختصاص الداخلي ، أي تحديد المحكمة المختصة من بين محاكم الدولة الصادر منها ذلك الحكم ، ويطلق عليه الاختصاص الخاص
1- الاختصاص الدولي ( الاختصاص العام المباشر ) :
إن قواعد الاختصاص القضائي الدولي قواعد فردية الجانب ، أي أن كل دولة تنفرد بتحديد اختصاص محاكمها ، ولا تستطيع أي دولة أن تفرض قواعدها المتعلقة بالاختصاص القضائي العام على الدول الأخرى ، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا علي أي أساس يراقب القاضي المطلوب منه إصدار الأمر بتنفيذ الحكم الأجنبي هذه المسألة ، هل طبقاً لقانونه ، أم طبقاً لقانون القاضي الذي أصدر الحكم المطلوب تنفيذه ؟
انقسم شراح القانون الدولي الخاص في هذه المسألة إلى اتجاهين :-
الاتجاه الأول ـ ويرى أنصاره تطبيق قاعدة تنازع الاختصاص في قانون القاضي المطلوب منه الأمر بتنفيذ الحكم الأجنبي
ويتأسس هذا الاتجاه على ما يلي :-
أ- بما أن قواعد تنازع القوانين مزدوجة الجانب ، أي أنها تحدد حالات تطبيق القانون الوطني وحالات تطبيق القانون الأجنبي ، فإنه يمكن التقريب بين قواعد الاختصاص القضائي الدولي وقواعد تنازع القوانين ، فيمكن لقواعد الاختصاص القضائي الدولي أن تقوم بنفس الدور إذا اعتبرناها قواعد مزدوجة الجانب ، حيث تحدد حالات اختصاص المحاكم الوطنية ، وكذا حالات اختصاص المحاكم الأجنبية فنوعا القواعد لهما وظيفة التعيين : تعين القانون المختص وهو ما تقوم به قواعد تنازع القوانين ، وتعين المحكمة المختصة وهو ما تقوم به قواعد تنازع الاختصاص ، ويتم هذا التعيين بطريقة مزدوجة ، بمعنى أنها قد تخص بالنزاع القضاء الوطني أو القانون الوطني أو على العكس قد تخص بالنزاع القضاء الأجنبي أو القانون الأجنبي .
ب- وقد حاول جانب من أنصار هذا التوجه أن يرد هذا الاتجاه إلى أصول نظرية فقرر أن قواعد الاختصاص القضائي الدولي تهدف أساسا إلى توزيع الاختصاص القضائي بين محاكم الدول المختلفة توزيعاً عادلاً ، وبناء على ذلك فلا يصح لدولة ما أن تتوسع في اختصاص محاكمها على حساب اختصاص محاكم الدول الأخرى ، ولكن نظراً لعدم وجود قواعد دولية ترسم لكل دولة حدود اختصاص محاكمها فإن النتيجة المترتبة على ذلك هي أن من واجب كل قاضي أن يقوم بنفسه بمراقبة التوزيع العادل للاختصاص ، وعلى هذا النحو فإن على القاضي الذي طلب منه الأمر بتنفيذ الحكم الأجنبي أن يقدر مدى اختصاص المحكمة التي أصدرته وفقاً لقانونه بوصفه القانون الأكثر تحقيقاً للعدالة من وجهة نظره
ج- إنه إذا قيل بتحديد الاختصاص القضائي الدولي للمحكمة الأجنبية التي أصدرت الحكم وفقا لقواعد الاختصاص المقررة في قانونها ، فإن هناك صعوبات عمليه سيواجهها القاضي المختص بتنفيذ الحكم الأجنبي لأنه يتعذر عليه الإلمام بقواعد الاختصاص القضائي لمختلف الدول ، ولا يمكنه الاعتماد على الخصوم في هذا الشأن خاصة إذا كانت لهم مصلحة في عدم مساعدة القاضي .
ونحن لا نؤيد هذا الاتجاه للأسباب الآتية :-
أولاً- إنه بالرغم من أن قواعد الاختصاص وقواعد تنازع القوانين يتميزان بكونهما يضعان حداً لظاهرة التنازع تنازع محاكم الدول المختلفة في حالة تنازع الاختصاص ، وتنازع قوانين الدول المختلفة في حالة تنازع القوانين ، إلا أنه لا يمكن لنا إغفال وجه الخلاف الجوهري بين الاثنين الذي يبرر عدم جواز القياس ، فقواعد تنازع القوانين قواعد مزدوجة الجانب تشير إلى الحالات التي يطبق فيها القانون الوطني والحالات التي يطبق فيها القانون الأجنبي ، أما قواعد تنازع الاختصاص فهي قواعد مفردة الجانب لا تشير إلا إلى الحالات التي يختص بها القضاء الوطني دون الحالات التي يختص بها القضاء الأجنبي .
ثانياً- إن السائد الآن أن القاضي الوطني يلتزم بالبحث عن مضمن القانون الأجنبي وتطبيقه من تلقاء نفسه ، فلا يوجد ما يمنعه من البحث عن قاعدة الاختصاص القضائي الأجنبية للتأكد مما إذا كانت المحكمة التي أصدرت الحكم مختصة أم لا ، كما أنه من غير المعقول أن يُطلب من القاضي الأجنبي عند إصدارة للحكم أن يطبق قواعد اختصاص قضائي غير تلك التي ينص عليها قانونه وخاصة أنه لا يعلم مسبقاً أمام أي من محاكم الدول سوف يطلب تنفيذ الحكم الذي أصدره حتى يراعي قواعد الاختصاص الواردة فيه.
ثالثاً- إن هذا الاتجاه إذا كان قد نشأ بالفعل ، فهو اتجاه يستند إلى اعتبارات عملية في الدرجة الأولي والأخيرة ، فاستسلام القضاة للصعوبات التي تواجههم للكشف عن مضمون القانون الأجنبي للوقوف على اختصاص المحكمة التي أصدرت الحكم المراد تنفيذه من عدمه ، هو الذي جعلهم يرحبون بنشأة مثل هذا الاتجاه ، وهو لا شك أساس ضعيف يجعلنا نتردد في قبوله .
الاتجاه الثاني ـ ويرى أنصاره تطبيق قاعدة تنازع الاختصاص وفقاً لقانون المحكمة الأجنبية التي أصدرت الحكم.
ويتأسس هذا الاتجاه على ما يلي :-
أ- بما أن قواعد الاختصاص القضائي الدولي في كل دولة قواعد وطنية مفردة الجانب أي أنها تحدد فقط حالات اختصاص المحاكم الوطنية ، ولا تعنى ببيان اختصاص المحاكم الأجنبية فإنه ليس من المنطق الاعتماد على قواعد تنازع الاختصاص في دولة التنفيذ لرقابة شرعية الاختصاص الدولي للمحكمة الأجنبية التي أصدرت الحكم المطلوب تنفيذه .
ب- أن رقابة شرعية الاختصاص القضائي الدولي للمحكمة الأجنبية بمناسبة تنفيذ الحكم الصادر عنها ، تعتبر بمثابة رقابة لاحقة للفصل في النزاع من جانب المحكمة الأجنبية فتتحدد بالرجوع للقواعد المقررة في قانون هذه المحكمة ، دون قواعد قانون القاضي في دولة التنفيذ ، التي تستخدم فقط للتحقق من شرعية الاختصاص الوطني لمحاكم دولته ، باعتبار أن رقابته لهذه الشرعية رقابة سابقة للفصل في النزاع .
ج- أنه في حالة تعدد المحاكم الأجنبية المختصة دولياً ، من المستبعد أن تتم رقابة الاختصاص الأجنبي بالرجوع إلي قواعد تنازع الاختصاص في قانون القاضي المطلوب منه تنفيذ الحكم الأجنبي ، إذ يحل هذا التنازع الإيجابي بالرجوع إلى قانون المحكمة الأجنبية التي اختصت أولاً وفصلت في النزاع بحكم .
ولكن الصعوبة تكمن في تحديد حالات الاختصاص العام لمحاكم الدولة المطلوب إليها الأمر بتنفيذ الحكم الأجنبي ، والتي يمكن أن تحول دون تنفيذ الحكم بتقسيم حالات الاختصاص العام إلى طائفتين.
الطائفة الأولى : حالات الاختصاص الأصلي وهي التي لا يجوز الخروج عليها وتحول دون تنفيذ الحكم الأجنبي ، حيث لا يجوز كمبدأ عام تنفيذ الحكم الأجنبي الصادر في نزاع يدخل في اختصاص المحاكم الوطنية.
الطائفة الثانية : حالات الاختصاص الجوازي وهي التي يجوز الخروج عليها باتفاق ذوي الشأن ، والتي يكون فيها الاختصاص مشترك بين محاكم الدولة المطلوب إليها تنفيذ الحكم ومحاكم الدولة الأجنبية الصادر منها ذلك الحكم .
الطائفة الأولى لا خلاف عليها ، ولكن الطائفة الثانية تضاربت بشأنها أحكام القضاء .
فقد حكمت محكمة النقض المصرية في 16/12/1954 في دعوى نفقة رفعتها زوجة بريطانية على زوجها البريطاني ، بناء على حكم تطليق صادر عن المحكمة العليا البريطانية فقد حكمت محكمة النقض بتأييد حكم محكمة الموضوع الذي حكم برفض دعوى النفقة ، على أساس عدم تمتع الحكم الأجنبي بالتطليق بحجية الأمر المقضي به في مصر ، وذلك لأن المحاكم المصرية كانت مختصة أصلاً بنظر دعوى التطليق بناء على توطن المدعى عليه في مصر ، وباعتبار أن شروط حجية الشيء المقضي به للحكم الأجنبي هي ذات الشروط اللازمة لمنح الأمر بالتنفيذ.
وفى حكم آخر لمحكمة النقض المصرية أيدت فيه فكرة الاختصاص المشترك فقد رفع أحد البنوك العربية دعوى أمام محكمة القاهرة الابتدائية يطلب فيها الأمر بتنفيذ حكم صادر عن القضاء الأردني ضد مدينيه ، فأصدرت المحكمة أمرها بالتنفيذ لصالح البنك وتأيد الحكم استئنافياً ، فرفع مدينو البنك طعناً أمام محكمة النقض ، وأثارا فيه مشكلة عدم اختصاص المحكمة الأردنية (محكمة بلدية القدس) بنظر النزاع وبينوا في الطعن أنهم يتوطنون في مصر ، ومن ثم فإن القضاء المصري هو المختص بنظر النزاع ، إذ أنه يشترط لصحة اختصاص المحكمة الأجنبية المطلوب تنفيذ حكمها في مصر ، ألا تكون المحاكم المصرية مختصة بنظر ذلك النزاع الصادر فيه الحكم الأجنبي المطلوب إصدار الأمر بتنفيذه وفقاً لقواعد الاختصاص القضائي الدولي ، وقد رفضت محكمة النقض هذا الوجه من الطعن لأنه حتى لو فرض أن المحكوم ضدهم يتوطنون في مصر وتوافر اختصاص المحاكم المصرية بناء على ذلك ، إلا أنه لما كان الثابت أن ( محكمة بلدية القدس الأردنية ) هي الأخرى مختصة بنظر النزاع طبقاً لقانونها ، وكان اختصاصها يقوم أصلاً على أساس كونها محكمة محل إبرام العقد والمحل المشروط تنفيذه فيه ، وهما ضابطان للاختصاص القضائي مسلم بهما في غالبية القوانين ويقرهما قانون الدولة المطلوب تنفيذ الحكم فيها ( قانون المرافعات المصري م3/2 ) لما كان ذلك وكانت محكمة بلدية القدس هي إحدى جهتي القضاء المنعقد لهما الاختصاص في النزاع القائم بين الطرفين ، وقد رفع إليها النزاع فعلاً وأصدرت فيه الحكم المطلوب الأمر بتنفيذه في الدعوى الراهنة ، فإن دوافع المجاملة ومقتضيات الملائمة وحاجة المعاملات الدولية توجب – في الظروف المتقدم ذكرها – اعتبار هذا الحكم قد صدر من محكمة أجنبية في حدود اختصاصها ، وإذا كان الحكم المطعون فيه قد طبق هذا النظر فإنه يكون قد طبق القانـون تطبيقاً صحيحاً ، وبالتالي يكون النعى بهذا السبب على غير أساس .
ويرى البعض أن المحكمة قد أصابت في حكمها الأول وأخطأت في حكمها الثاني ، فهي قد أصابت في حكمها الأول إذ اعتبرت أن المحاكم المصرية مختصة أصلاً بناء على توطن المدعى عليه في مصر ، وهو ضابط إقليمي تقوم على مقتضاه ولاية القضاء المصري بالنسبة للأجنبي ، كما ذكرت بحق في حيثيات حكمها الثاني ، أما حكمها الثاني فليس بمأمن من الانتقادات ، لأنه يقوم على لبس في فهم طبيعة قواعد الاختصاص العام المباشر ، إذ من المسلم أن هذه القواعد منفردة الجانب ، ومحاكم الدولة إذا تعمل الضوابط المنصوص عليها إنما تعملها لحسابها الخاص ولتحديد اختصاصها إزاء محاكم الدول الأخرى ، فإذا كان القانون المصري يأخذ بضابط محل إبرام العقد أو المحل المشروط تنفيذه فيه ، فإن المحاكم المصرية تعمل هذا الضابط بقصد تحديد اختصاصها فحسب ، ولا تأخذ به كضابط عام مجرد تحدد على أساسه المحكمة المختصة أياً كانت ، كما أن المحكمة حاولت أن تتذرع ببعض عبارات على درجة كبيرة من المرونة وهي " دوافع المجاملة ومقتضيات الملائمة وحاجة المعاملات الدولية ، في نطاق الظروف المتقدم ذكرها " وتلك العبارات المرنة لا تتسق مع ما يجب أن تتصف به قواعد الاختصاص القضائي من ضبط وتحديد .
وبذلك يمكن القول بأن شرط عدم الاختصاص ينطوي على شقين أولهما سلبي وهو عدم دخول المنازعة في الاختصاص القاصر لمحاكم الدولة المطلوب فيها الأمر بالتنفيذ ، وهو ما يستلزم الرجوع إلى قواعد الاختصاص القضائي الدولي في دولة التنفيذ ، وثانيهما إيجابي وهو دخول المنازعة في اختصاص المحكمة الأجنبية التي أصدرت الحكم ، وهو ما يتعين معه الرجوع إلى قانون الدولة التي تتبعها هذه المحكمة .
موقف القانون المصري :
جمع القانون المصري بين الاتجاهين السابقين حيث نص في المادة (298) من قانون المرافعات على أنه لا يجوز الأمر بتنفيذ الحكم الأجنبي إلا بعد التحقق من أن محاكم الجمهورية غير مختصة بالمنازعة التي صدر فيها الحكم ….. وأن المحاكم الأجنبية التي أصدرته مختصة طبقاً لقواعد الاختصاص القضائي الدولي المقررة في قانونها .
موقف القانون الفرنسي :
ويقترب من موقف القانون المصري وإن كان تقدير مدى اختصاص المحكمة الأجنبية التي أصدرت الحكم المراد تنفيذه في فرنسا يتحدد بالتطبيق غير المباشر لقواعد الاختصاص الدولي للقضاء الفرنسي (12) وقد قال الشراح والقضاء في فرنسا في تحديد اختصاص المحكمة الأجنبية بالرجوع إلى قواعد الاختصاص الدولي : بأنه متى تعلق الأمر بنزاع يدخل في الاختصاص الاستئثاري للمحكمة الوطنية ، فإنه يجب الرجوع لقواعد الاختصاص الوطنية لمراقبة صحة الاختصاص ، وأنه إذا كان انعقاد الاختصاص للمحكمة الأجنبية التي أصدرت الحكم تم بناء على تحايل الخصوم الذين جلبوا الاختصاص بوسائل تدليسه فإنه لا يكفي التحقق من شرط الاختصاص بالرجوع لما تقرره قواعد الاختصاص في قانون المحكمة الأجنبية .
2- رقابة الاختصاص الداخلي ( الاختصاص الخاص ) :
يتفق غالبية شراح القانون الدولي الخاص على أنه إذا كانت المحكمة الأجنبية مختصة دولياً ، بأن كان النزاع داخلاً في اختصاصها العام المباشر ، فإن اختصاصها الداخلي أو الخاص بشقية النوعي والمحلي يجب رقابة شرعيته بالرجوع إلى قواعد الاختصاص في قانونها الأجنبي ، لأنها مسألة تخص القانون الأجنبي ، ومن ثم تتعلق باختصاص سيادي للمحكمة الأجنبية .
ولا يلتزم القاضي الذي يطلب منه الأمر بالتنفيذ بالتأكد من الاختصاص الداخلي للمحكمة التي أصدرت الحكم إلا إذا كان عدم تحقق الاختصاص الداخلي من شأنه أن يجعل الحكم باطلاً لدى الدولة التي صدر الحكم من محاكمها .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق