اجتهاد جريء حول الأثر القانوني لتغيير الموطن المختار بإرادة منفردة |
يعلم المحامي المتمرس أن دعوى الإخلاء لعلة التقصير عن الدفع تعتبر من أصعب القضايا وأكثرها دقة وتعقيداً، نظراً لوجود اتجاه قضائي عام متشدد لدرجة التزمت الزائد عن اللزوم، في تطبيق أحكام القانون الخاصة ففي هذه الحالة، ويزداد هذا التزمُّت إذا كان المأجور المطلوب إخلاؤه متجراً، بالنظر للقيمة المادية الكبيرة له التي يملكها المستأجر.
في الحالة التي نعرضها فيما يلي:
المأجور عبارة عن مكتب محامي متوفي، مغلق منذ وفاة المحامي،
قام المؤجر بطلب الأجرة بشكل أصولي عن طريق إنذار عدلي،
تمَّ التبليغ بطريق الإلصاق على باب المأجور.
مضت المدة القانونية ولم تُدفع الأجرة فتحققت حالة الإخلاء، ورُفعت الدعوى بذلك.
ناضل الورثة المدعى عليهم في الدعوى بشكل لافت للنظر.
حيث قامت باتخاذ موطن مختار آخر لها صالح للتبليغ غير المأجور، وبلغت المؤجر ذلك عن طريق الكاتب بالعدل.
ودفعت بأن المأجور مغلق ولا يقيم فيه المستأجر وبالتالي فإن التبليغ على المأجور باطل بسبب علمها اليقيني بعدم إقامة المستأجر به.
وجهت اليمين الحاسمة لها عن هذه الوقائع وعن عدم علمها بمحل إقامتها.
استشفت المحكمة من عقد الإيجار اتخاذ المأجور كموطن مختار صالح للتبليغ وبالتالي فإن توجيه إنذار بتغيير الموطن لا يستقيم مع حكم القانون الذي قضى بأن أي تعديل للعقد يجب أن يتم توافق إرادتي المتعاقدين (المادة 148 مدني)
اجتهدت محكمة الصلح برئاسة القاضي المتميز الأستاذ "فراس محمد عرفة بلحة" بالقضية وأجابت على هذه الدفوع بمنطق قانوني سليم ومستساغ قائلة:
((انتقال الإيجار للورثة لا يعني انقطاع صلتهم بالمأجور ولا يجوز تحميل المدعي عبء البحث عن عنوان الورثة....
ولا عبرة لعدم إقامة المدعى عليهم بالمأجور، ولا عبرة لعلم المؤجر بمكان إقامة المستأجر الفعلي، طالما أن مؤرثهم ارتضى اتخاذه كموطن مختار صالح للتبليغ))
وبالتالي فإن اليمين الحاسمة تغدو غير منتجة في هذه الحالة.
ولا شكَّ أن هذا الاتجاه يتوافق مع روح التشريع وقصد المشرع، إذ يتوجب على المستأجر أن يبادر لدفع الأجرة عند استحقاقها من تلقاء نفسه كالتزام عقدي وقانوني مترتب بذمته، بدون الحاجة أن يتكبد المؤجر عبء المطالبة بها، وبالرغم من ذلك فقد فرض المشرع على المؤجر المطالبة بها مسبقاً ضمن شروط دقيقة ومعقدة وصارمة، حتى إذا لم يدفعها المستأجر، تحققت حالة الإخلاء، وبالتالي لا يعقل أن نكبد المؤجر فوق ذلك في حال وفاة المستأجر وعدم إشغال المأجور من قبل الورثة، عناء البحث عنهم وعن موطنهم ومطالبتهم واحداً واحداً، لا سيما في ظل وجود موطن مختار صالح للتبليغ في العقد المبرم الذي يحكم العلاقة بينهما، ولا يجدي معه تغيير هذا الموطن بشكل مزاجي وبإرادة منفردة من قبل أحد أطراف العقد بمعزل عن الآخر!!
لذلك يأتي هذا الاجتهاد السليم متوافقاً مع جوهر العدالة التي يتوخاها المشرع.
مما حدا بمحكمة النقض لتصديق القرار.
إضافة للاجتهاد سالف الذكر، من الجدير بالذكر أن ملف الدعوى ضاع أثناء سير القضية وتم ترميمه من قبل المدعي، ودفع المدعى عليهم بإنكار بعض صور التبليغات فاجتهدت المحكمة بذكاء ملفت للنظر أيضاً قائلة:
((في معرض ترميم وثائق الدعوى لا يكفي إنكار مذكرات التبليغ باعتبارها صور ضوئية، وإنما يتوجب عليها إبراز أصل التبليغ الموجه إليها))
الخلاصة:
((عندما يكون هناك "موطناً مختاراً" اتخذه طرفا العقد لنفسهما بمتنه، فمن غير المجدي قيام أحد أطراف العقد بتغييره بدون موافقة الطرف الأخر على ذلك، حتى لو قام بتبليغه الموطن الجديد بشكل أصولي بواسطة الكاتب بالعدل، ويكون هذا التغيير للموطن عديم الأثر القانوني في هذه الحالة))
في الواقع القرار متميز ويستحق القراءة والاطلاع عليه، ولم نستطع في هذه العجالة الإحاطة بكافة جوانبه، ولكنه متوفر طبعاً في ديوان محكمة الصلح المدني بدمشق (سجل القرارات)، ونظراً لطوله (23 صفحة) اكتفينا بنشر مقاطع منه، وبنشر قرار محكمة النقض كاملاً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق